تراث أمارك و الشعر الغنائي عند أيت إحاحان خلال مرحلة الحماية الفرنسية
محمد أبيهي؛ أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس بالرباط
قليلة هي الدراسات التي خصصت لظاهرة الأمارك، نظرا لضعف اهتمام الباحثين بأهمية ظاهرة الأمارك في الحفاظ على التراث الأمازيغي، ولعل عمق تجليات هذه الظاهرة حاضر بقوة في الثقافة الشفهية الحاحية، فقد أنتج هذا المجال الجغرافي الثقافي ثلة من عباقرة فن أمارك، إلى حد أن وصف الحاحيون بمنبع لا منتهي للروايس ن أومارك، فرغم التهم التي ألصقت لهذه الظاهرة من طرف بعض التيارات الايديولوجية، بكونها مصدرا للتفسخ الأخلاقي والخلقي، فإن الباحث في تاريخ الحضارة المغربية، لا ينكر دور الشعراء والروايس في الحفاظ على التراث الشفهي والقيم الأمازيغية، بل كان حاسما في محاربة المستعمر الفرنسي بسلاح الكلمة الشعرية الإيحائية، التي كانت تخيفه بدلالاتها العميقة في ترسيخ الوعي الوطني لدى القبائل الأمازيغية، كما لا ننكر دوره الديني والتربوي والاجتماعي في نقل تجارب الروايس إلى الآخرين في قالب فني وشعري غنائي.
يشكل فن أماركـ أحد الفنون الثقافية المهمة بالمناطق الناطقة بلغة تاشلحيت،1 وتقترن بمختلف المناسبات كالأعراس مثلا.واهتم الحاحيون بصناعة الأدوات الموسيقية المتعلقة بهذا الفن كآلة الرباب واللوتار والناقوس، وأما مميزاته فهو عبارة عن إيقاعات موسيقية تضاف إليها قصائد شعرية محلية أغلبها عبارة عن قصائد مدحية، يبدعها فئة امديازن أو شعراء القبيلة. التي تعبر عن هموم الإنسان واكراهات محيطه المحلي، ولهذا الفن قواعد تضبط إيقاعه. وما يميز الزي هو ارتداء الرواييس للجلباب الأبيض والعمامة البيضاء أي الرزا والبلغة البيضاء أو أدوكو، وخنجر فضي أو لكوميت، لما تجسده من دلالات الصفاء والنقاء وقوة الشخصية.
وارتبط الفنان الحيحي خلال مرحلة الحماية الفرنسية بمبادئ فن تيرووسا، التي وضعها الرواد الأوائل، والتزموا بها في جل أغانيهم، ومزجوا بين قضايا عدة في أشعارهم الغنائية، ومن خصوصيات الفنان الحيحي تفاعله مع المعطى الطبيعي والاجتماعي لمحيطه، وقد ساهم في اغناء مواضيع أغانيهم ، وكان السمة الأبرز في أغانيهم هي الإبداع الشعري والإلهام الفني. لازمت فئة الروايس حضور جل الطقوس الاحتفالية بالقبائل، نظرا لأهمية الأمارك في الحياة الاجتماعية، بحكم طبيعة المواضيع التي يرددونها في أغانيهم في الأسواق الكبرى بالمنطقة،التي تمحورت حول الغناء في المواضيع الاجتماعية والعاطفية،وكما يستدعون للحضور في الحفلات التي تقام بدار القيادات بكل من اينكنافن واداوكيلول، وتشير الرواية الشفوية إلى حضور الروايس للغناء عند قواد القبائل بتمسورين ودار النكنافي.2
كانت مرحلة الحماية الفرنسية مميزة من حيث خصائص أحداثها السياسية الكبرى، وقد شهد المغرب في حقبة الحماية بداية الاحتلال الفرنسي وأحداث الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولم يكن روايس احاحان معروفين خلال هذه المرحلة، كما عرف الرايس الحاج بلعيد الذي سجل أغانيه بباريس، ولكن صوت روايس ن احاحان ظهر خلال أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي بعد إقدام سلطات الحماية الفرنسية على تسجيل أسطوانات غنائية في إطار المشروع الاستعماري، الذي دشنه المعهد العالي للدراسات العليا بالرباط، والهادف إلى توثيق تراث المغرب لأغراض استعمارية. ورغم القيود التي فرضت عليهم من طرف سلطات الحماية الفرنسية، بسبب الاشتباه في انتمائهم للحركة الوطنية، فقد زاروا أغلب ساحات المدن المغربية، وأدوا أغاني خالدة بصمت تاريخ المقاومة المغربية للاستعمار. 3 فمن هم رواد هذه المرحلة؟ وما هي إسهاماتهم الفنية؟
أ.الرايس محمد أوبراهيم أوتاصورت:
ترعرع بقبيلة اداوكرض ببوتازارت بمنطقة فولوست، وكان دائما رفقة والده خلال زيارته لدوواير اداويسارن، وتعلم فن الأمارك من أبيه، ويتقن آلة اللوتار، وعرف الرايس محمد أوبراهيم أوتاصورت رحمه الله بحسه الفني في أداء أغانيه، مما منحه مكانة ضمن الروايس باحاحان، وجاب جل الدوواير والمداشر في الأربعينبات من القرن الماضي، وسطع نجمه في البداية بساحة باب مراكش بمدينة الصويرة خلال الحقبة الاستعمارية، حيث كان يؤدي أغانيه بمعية جمهوره من احاحان وساكنة المدينة، إلى أن حل بمدينة مراكش، فاختاره الباشا التهامي الكلاوي ليكون من المحظوظين للغناء في قصره الفسيح، واحتفظت ذاكرة الرايس محمد أوبراهيم أوتاصورت بمسار غنائي يؤرخ لمرحلة الأربعينيات من القرن الماضي،وتوفي رحمه الله في رمضان سنة 2016م.
ب.الرايس الحاج محمد اموراك:
ولد في بدايات القرن 20م بقبيلة اداوزمزم الحاحية، وقد تربى في عائلة فقيرة، ومكن احتكاكه بطبيعة المنطقة من امتلاك موهبة غنائية، تتجلى في صوته الجميل، الذي كسب به جمهورا عريضا، إلى أن وصل مدينة مراكش، واختاره التهامي الكلاوي باشا مراكش ليكون من بين المدعوين لإحياء سهرات فنية في دار الباشا أمام ضيوفه الفرنسيين. تجول الرايس الحاج محمد أمراك بعد الاستقلال في جل المدن المغربية، لإحياء سهرات فنية في ساحات المدن المعروفة، وحضر حفل استقبال الملك الراحل محمد الخامس بساحة جامع الفنا خلال الخمسينيات من القرن الماضي، واستعرضت جميع الفرق الفنية التراثية أمام الملك، وأولهم فرقة الروايس تحت إشراف الحاج محمد أومراك بمعية الرايس محمد أوبراهيم أوتاصورت والرايس عمر اهروش، وغيرهم من المطربين، وتشير العديد من الروايات أن الرايس الحاج الدمسيري تأثر بطريقته في الغناء، وسار على دربه في الأداء الموسيقي.
ج.الرايسة تالاخورت:
ولدت بمنطقة درممان بأيت محند بقبيلة انكنافن، واشتهرت في بداية مسارها الفني بأغاني خالدة، ويضرب بها المثل في قوة شخصيتها وجرأتها في تناول جل المواضيع ذات الصلة بالحياة الاجتماعية للمرأة في المجتمع الحاحي، وكانت تمدح نفسها قائلة "تيدي نوو وند أغانيم،أزاار اروودا أر أكال،ألن اينو زوند لكيسان،أدار القالب ن أوسفي"، ويحكي أبي الأستاذ ابراهيم أبيهي أنها زارت إحدى أعراس أعيان قبيلة اداويسارن المسمى سعيد ن لوخ بادوكونكي، وغنت أغنيتها الشهيرة، التي جاء في كلماتها الشعرية،ما يلي: "أوفيغذ أسراك أوسعيد،اتوت س أوجديك،ايلا وين الشايت،ايلا وين ليزار،ايلا لقضيبي"، للإحالة على جمال نساء القبيلة وعفة أخلاقهن.وعانت من مضايقة أخيها، الذي لم يكن يرغب في احترافها الغناء في الأعراس، ورددت في أحد أغانيها ما يلي"يان دادا كاداري ايلان،ازدي بدا هار لاترت،ماناكو سوديغ أرام،يوكان دادا د أوحانو، نمدورو زوند اكروان،اك كولو زجاج أحانو".5
د.الرايس أنظام العياشي:
ينتمي لمنطقة تضورين باداويسارن،عاش حقبة مهمة قبل الحماية الفرنسية، وكان يستدعى إلى الأعراس الرسمية والطقوس القبلية، وعرف بنظم كلمات الأمارك، ويعود له الفضل في تربية الأفراد على قيم اجتماعية نبيلة، وكان ملازما لطقوس الأحواش والفروسية، حيث يدشن هذا الحفل بكلماته، التي تحمل دلالات ثقافية عميقة، وتشير الرواية الشفهية للأستاذ إبراهيم أبيهي أن لهذا الفنان حس إبداعي، فكان يغني وينظم بباحة الحفل أسراك. ومن أشهر كلماته الغنائية: "الالا يات تغريت واحق الواحيدي،أدام اسفلد اومنار غ اكنوان اضردي،ادام اسفلد أومكسا افلتنتين يوريدي،أدام اسفلد الفقيه،اسرس لكتوبي"، وغنى كذلك " أطيط أتكا د الباز،لغشيم أوراك اسين، أسيس ازبو يوريد، أورتاك ايلاما يان"، والمقصود به خفة البصر وبعد الرؤية.6
خلاصة:
ما يميز الثقافة المحلية بالأطلس الكبير الغربي هو تنوعها وتعددها، فهي تتجلى أساسا في مجموعة من المظاهر تدخل في إطار أوسع لثقافة الأطلس الكبير مع بعض الاختلافات الجزئية حسب كل منطقة، فإلى جانب اهتمام السكان بصناعة الحلي التقليدي، ومظاهر اللباس وعصر زيت الأركان، وصناعة النسيج التقليدية، وما يرتبط بها من أدوات كـ "أسطا"، نجد مجالا آخر من مظاهر الثقافة المحلية بالمنطقة، ويتعلق الأمر بالفنون الموسيقية الأمازيغية القديمة، كـ "أحواش"،وفن "أماركـ" وفن "اسمكان"، وتلازم الإنسان الأمازيغي في احتفالاته وطقوسه الاجتماعية.
ارتبط الفنان الحيحي خلال مرحلة الحماية الفرنسية بمبادئ فن تيرووسا، التي وضعها الرواد الأوائل، والتزموا بها في جل أغانيهم، ومزجوا بين عدة قضايا في أشعارهم الغنائية، ومن خصوصيات الفنان تفاعله مع محيطه، وقد ساهم في اغناء تيمات هذا الفن ارتباطا بمستجدات ما يقع في محيطه الاجتماعي من تحولات، وكان السمة الأبرز في أغانيه هي الإبداع الشعري والإلهام الفني. واستعرض المقال ثلة من الروايس الحاحيين اللذين عاشوا حقبة الحماية الفرنسية،في انتظار التطرق لمرحلة ما بعد الاستقلال.
إن دراسة تراث أمارك في حاجة إلى مونوغرافيات تفصل في حياة رواد هذا الفن الأمازيغي الأصيل،فهو جزء من الحياة الثقافية والاجتماعية عند الأمازيغ عبر التاريخ، فوظائفه لها أبعاد قيمية وثقافية ودينية في المجتمع،فإعادة الاعتبار لهذا التراث وتوثيقه أصبح ضرورة ملحة لدى المهتمين والباحثين.
المصادر؛
-1Abdallah El Mountassir,AMARG Chants et poésies amazyghs (Sud Ouest du Maroc),editions harmattan,2004,PP:14-15.
2- مصدر الرواية الشفوية:ذ.أبيهي إبراهيم،مركز سميمو إقليم الصويرة.السن:75 سنة.
3- كان حضور الروايس وازنا خلال مرحلة الحماية الفرنسية إلى جانب روايس سوس والأطلس الكبير، ورغم القيود التي فرضت عليهم من طرف سلطات الحماية الفرنسية، بسبب الاشتباه في انتمائهم للحركة الوطنية، فقد زاروا أغلب ساحات المدن المغربية، وأدوا أغاني خالدة بصمت في الذاكرة المحلية الحاحية.
أنظر:
- محمد شفيق،الشعر الأمازيغي والمقاومة المسلحة في الأطلس المتوسط وشرقي الأطلس الكبير، مجلة الأكاديمية، العدد 4 سنة 1987م.
- LAOUST EMILE,Chants berbères contre l’occupations Française, Mémorial Henri Basset, T2 ,Paris 1928.
4- الرواية الشفهية للأستاذ ابراهيم أبيهي الذي كان متواجدا بساحة جامع الفنا، حيث كان يتابع دراسته بكلية ابن يوسف بمراكش،السن 74 سنة،تم استجوابه في 8/07/2016م.
5-نفس المرجع أعلاه
6- نفس المرجع أعلاه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق